هذه السورة المباركة اشتملت على أسس الرؤية الكونية الواقعية والأيديولوجية المترتبة عليها ..
وأساس أية رؤية كونية ما اصطلح عليه مؤخرا بنظرية المعرفة ..
ومحور أبحاثها حول معرفة الواقع وكيفية معرفته ووسائلها ومصادرها وموازينها
في هذه العجالة سنسلط الضوء قليلا على ما تم استنتاجه مما يخص نظرية المعرفة تحديدا .
الاستنتاج الأول :
نصت السورة الكريمة على أن النجاة من الخسران إنما يكون ب " الإيمان" وهو تعبير آخر عن الإعتقاد والتصديق الجازم والسؤال : هل الإيمان المطلوب والممدوح والذي هو سبب النجاة والنجاح هو أي إيمان كان ؟! سواء كان منشؤه التقليد أو الظن او غيرهما ؟ّ
بعبارة أخرى هل تحقق النجاة منوط باي إيمان كان أم بمصداق محدد من الإيمان ؟
لمعرفة ذلك يجب التأمل في السورة الكريمة ذاتها وعند التأمل نجد أن الجواب : هو الإيمان البرهاني تحديدا لا أي إيمان ..
لأن أي إيمان غير برهاني قابل للزوال أي أنه ليس له صفة الثبات والدوام وهو خلاف " الحق " إذن نستنتج من ضم " الحق " إلى " الإيمان " أن المطلوب هو الإيمان الناتج عن برهان .. أي إيمان يقيني ولا يوصلنا إليه إلا البرهان .
ف " الحق " هو ما اتصف بالثبات والدوام ومالم يكن كذلك فليس بحق .. هذا الإستنتاج الأول . ( ومنه يعلم بطلان القول بنسبية الحقيقة ) و (أن الإسلام يدعو إلى البرهان قبل الإيمان لا كالمسيحية )
الاستنتاج الثاني :
إن السورة المباركة أشارت إلى ميزان معرفة الحق من غيره , حيث لا يتأتى لنا معرفة الحق والإيمان به إلا عبر البرهان ولا يصح برهان ولا يكون له أساس إلا إذا اعتمدنا على مبدا استحالة اجتماع النقيضين .. وإلا لما كان هناك فرق بين الحق وغيره ولما كان الإيمان بالحق هو سبب النجاة من الخسران .
الإستنتاج الثالث :
إن من يعتمد على البرهان يكون في أمان من " الخسران المعرفي " أي الضلال وفقدان جهة الحقيقة .
الإستنتاج الرابع :
إن تعريف الإيمان بناء على ما جاء في السورة المباركة هو : التصديق الجازم المطابق للواقع غير القابل للتغير .. ( أي هو اليقين بالمعنى الأخص منطقيا )
نموذج تطبيقي قرآني :
" سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ " الأنعام 148
هنا القرآن الكريم يطلق على هذا النوع من الإستدلال ( الظن ) فما ليس عليه برهان فهو ظن ولا يطلق عليه علم حتى وإن تلبس بصورة البرهان
فالبرهان في عرف القرآن ما يستند إلى مبدأ عدم التناقض .. فإذا خالفه فليس ببرهان ولا يترتب عليه أي معرفة واقعية .
أنتم تدعون أن أفعالكم الشركية إنما هي بإذن الله تعالى بدليل أنه لو لم يأذن لكم لما سمح لكم بفعله ولمنعكم عن ذلك والتالي باطل فالمقدم مثله .. فينتج أن الله تعالى سمح وأذن لكم بفعله .
وهذا استدلال باطل من أساسه , لأن الله تعالى بلغهم عبر رسوله صلى الله عليه وآله بحرمة هذه الأفعال وقد ثبتت رسالته بالبراهين العلمية والعملية وبناء على مبدأ عدم التناقض إما أنتم الصادقون أو الرسول صلى الله عليه وآله وبما ان الرسول صلى الله عليه وآله مؤيد بالبراهين فوجب تصديقه وأن ما قاله موافق للحقيقة .. بينما انتم لم تأتوا باي برهان على ما ادعيتم فوجب تكذيبكم لذا قال تعالى " كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم" .
كذلك قول الله تعالى " وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)"
الكهف 4 ,5
فلأن ما قالوه ( برغم استدلالاتهم ) يتعارض مع مبدأ البرهان الأساسي وهو قانون عدم التناقض نفى الله تعالى عنه العلمية .
كذلك قوله تعالى " وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ "
وغيرها كثير ..
الخلاصة :
إن السورة المباركة ..
١- تثبت وجود الواقع ( الحقائق ).
٢- وإمكانية الوصول إليه ومعرفته.
٣- وأوضحت الميزان الذي نميز به بين الحق والباطل.
٤- وأثبتت أن الحقيقة مطلقة وليست نسبية.
٥- وأن البرهان المعتمد على مبدأ عدم التناقض هو الحقيق بمسمى البرهان وهو الذي يؤدي إلى الحقيقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق