بات من المشهور بين المهتمين بالفلسفة حول برهان الصديقين أن أول من تحدث عنه هو المعلم الثاني الفارابي .. وربما يعزوه البعض للشيخ الرئيس .
لكن الحق أن حكيمنا ابن حيان هو أول من أشار إلى هذا البرهان .
وذلك بالرجوع لما كتبه في رسالة القديم
فهناك تعرض لعدة مسائل هامة من بينها مسألتنا قيد البحث .
وقد حاولت جهدي الوصول لمخطوطات ابن حيان الأخرى لعل فيها مزيد بيان أو إضافة لكن للاسف لم أعثر على ما أردت .
لذا سأكتفي بالنص الذي عثرت عليه وهو فيما أحسب كافيا لتحقيق الغاية منه .
الفلاسفة قسموا البرهان إلى قسمين أساسيين :
برهان لمّي وبرهان إنّي ..
والأول هو ما يكون الإستدلال فيه منطلقا من العلة نحو المعلول
والثاني بالعكس .
فاستدلالنا بحرارة المعدن على تمدده من القسم الأول
بينما استدلالنا بالتمدد على الحرارة من القسم الثاني .
وقالوا إن الأول أشرف وأكمل من الثاني .
وبرهان الصديقين يتقدم على جميع البراهين لأنه من القسم الأول .
وقرره الفارابي قدس سره على النحو التالي :
" إن الموجودات على ضربين: أحدهما إذا اعتبر ذاته لم يجب وجوده، ويسمى ممكن الوجود، والثاني إذا اعتبر ذاته وجب وجوده، ويسمى واجب الوجود، وإن كان ممكن الوجود إذا فرضناه غير موجود لم يلزم عنه محال، فلا غنى بوجوده عن علة، وإذا وجد، صار واجب الوجود بغيره، فيلزم من هذا أنه كان مما لم يزل ممكن الوجود بذاته، واجب الوجود بغيره، وهذا الإمكان إما أن يكون شيئًا فيما لم يزل، وإما أن يكون في وقت دون وقت، والأشياء الممكنة لا يجوز أن تمر بلا نهاية في كونها علة ومعلولًا، ولا يجوز كونها على سبيل الدور، بل لا بد من انتهائها إلى شيء واجب، هو الموجود الأول.
ولواجب الوجود متى فرض غير موجود، لزم منه محال، ولا علة لوجوده، ولا يجوز كون وجوده بغيره، وهو السبب الأول لوجود الأشياء .. ويلزم أن يكون وجوده أول وجود وأن ينزه عن جميع أنحاء النقص فوجوده إذن تام " عيون المسائل .
ثم قرره ابن سينا كالتالي :
" كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره فإما أن يكون بحيث يجب له الوجود في نفسه أو لا يكون. فإن وجب فهو الحق بذاته الواجب وجوده من ذاته و هو القيوم، و إن لم يجب لم يجز أن يقال: إنه ممتنع بذاته بعد ما فرض موجودا؛ بل إن قرن باعتبار ذاته شرط مثل شرط عدم علته صار ممتنعا، أو مثل شرط وجود علته صار واجبا. و إن لم يقرن بها شرط لا حصول علة و لا عدمها بقي له في ذاته الأمر الثالث و هو الإمكان فيكون باعتبار ذاته الشيء الذي لا يجب و لا يمتنع. فكل موجود إما واجب الوجود بذاته أو ممكن الوجود بحسب ذاته " الإشارات والتنبيهات .
فكيف قرره حكيمنا ابن حيان ؟
إن العلماء الحقيقيين هم من يشاهدون الأول أولا ولا يحتاجون إلى تفكير واستدلال ونظر ..والعلم بالقديم يستلزم العلم بالمحدث " إذ كان ضده وكان العلم بأحد الضدين علما بالآخر على رأي الصادقين الربانيين "
ومن يحتاج للتفكير والإستدلال بالمحدث على القديم فهو من الصنف القاصر ( الجاهل ) من الناس ..إذ " ليس الأمر على ما ظنه جهلة المتكلمين في هذا الباب الذين استدلوا على الغائب بالشاهد .."
فالعلماء يستدلون بالأول على الثاني وبالخالق على المخلوق وبالقديم على المحدث .
كيف ذلك أيها الحكيم ؟
يجيبنا :
لأن الوجود مقتضى ذات القديم تعالى ( فهو بذاته لذاته ) أي كما أن الوجود مقتضى ذاته ولا يحتاج إلى واسطة في التحقق والوجود كذلك وجوده لذاته أي لا يحتاج إلى واسطة في الإيجاد .
" أخص الاشياء بالقديم هو الوجود الذي يستغنى به عن الفاعل وذلك أنه إذا لم يزل موجودا فلو كان بالفاعل لكان قبله , وما تقدمه غيره فليس بقديم .. والمحدثات موجودة أيضا لكن بالواجب كانت كذلك " .. " ومن خواص القديم أيضا أن تكون جميع المحدثات من فعله وأثره إذ لابد لجميعها من الإنتهاء إليه والرجوع إلى كونه علة لها إما قريبة أو بعيدة ... وذلك أن الوجود له هو الصفة التي بها أثّر أثره .."
ولنقرر ما أفاده قدس سره بعبارة أوجز كالتالي :
هنا وجود فإما أن يكون بذاته أو بغيره فإن كان الأول ثبت المطلوب وإلا استلزمه لامتناع وجود ما بالعرض بدون مابالذات .
فما أفاده الحكيم ابن حيان نفس ما قرره الفارابي وابن سينا والطوسي ومن جاء بعدهم لكن بصيغ متعددة .. لذا قلنا أنه أول من أشار إلى هذا البرهان وإن كانت الصياغة تبدو قاصرة وغير واضحة لكن بالتأمل في ما أفاده نصل بوضوح إلى هذه النتيجة .
( طبعا هذا التقرير بتوضيح وشرح وتهذيب منا لأن النص الأصلي به كثير من الإضطراب .. وهناك إشارات مهمة في النص لمسائل أخرى أعرضنا عن التطرق لها لعدم كونها هدفا لبحثنا الآن )
المصدر الذي تم الإعتماد عليه : مجموعة من رسائل جابر بن حيان إختيار بول كراوس / كتاب القديم
والحمد لله رب العالمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق